بقلم زينة آغا
هذا المقال جزء من عدد “فلسطين: أوجه الوجود،” الذي يسلط الضوء على جوانب من الحياة الفلسطينية والتحرير غير المستكشفة بما يكفي.
اقرأ هذا المقال باللغة الانكليزية.
في شهر أيار ٢٠٢١، راجت صورةٌ على موقع تويتر لشابٍ يتسلق عمودَ إنارة وسط مظاهرة حاشدة، مرتقيًا فوق الدخان وحاملًا العلم الفلسطيني بيده، بينما مصابيح الشارع تشعُّ عبر سحب الدخان فتُضفي مسحةً سينمائية على المشهد. ولأن الصورة التُقطت وهو يتحرك، شابتها الضبابية بعض الشيء. الشاب في ثياب سوداء، والألوان الزاهية الوحيدة في الصورة هي ألوان العلم الأحمر والأخضر والأبيض. الصورة لشاب من اللِّد، مدينة فلسطينية في الداخل المحتل، وهذه كانت صرخته للحرية.
عندما أرى هذه الصورة وأنا أحتمي من عاصفة غير متوقعة في بريكستون، لندن، يكبر قلبي في صدري ويذكرني: هذه هي فلسطين.
تشير النكبة إلى فقدان الوطن الفلسطيني عام ١٩٤٨ وإلى التطهير العرقي لأكثر من ٧٥٠،٠٠٠ فلسطيني. وما حدث في اللِّد ومدينة الرملة المجاورة إبان النكبة أشبه بالكابوس. فعلى مدى أربعة أيام في شهر تموز ١٩٤٨، شنت دولة الاحتلال الجديدة هجومًا وحشيًا على مدينة اللِّد أسفر عن مقتل ٤٢٦ من أبنائها، كان معظم ممن لجؤوا إلى مسجد دهمش. ومن ثم قامت المليشيات الصهيونية بطرد سكان المدينة. وتشير التقديرات إلى أن بين ٥٠،٠٠٠ و٧٠،٠٠٠ شخص طُردوا من ديارهم، من أبناء اللِّد والرملة وممن نزحوا إلى هاتين المدينتين من البلدات والمدن الفلسطينية الأخرى التي طُرد أهلوها من قبل. وكانت هذه أكبر عملية تشريد تشهدها النكبة.
كانت اللِّد نقطة تحول. يحكي لي صديقي، وهو ابن كاهنٍ لوثري في المدينة، كيف أغلقت المليشيات الصهيونية ثلاثةً من مخارج اللِّد، وتركت مخرجًا واحدًا بلا حواجز، وأجبرت الفلسطينيين من مدينتي اللِّد والرملة على السير في الطريق الممتدة لأميال باتجاه الضفة الغربية (التي كانت تحت السيطرة الأردنية آنذاك) دون طعام أو ماء.
أقيمت نقاط التفتيش لتجريدهم من أي ممتلكات قد جلبوها من منازلهم. ولقي الكثيرون حتفهم في الطريق، وأُجبرت العائلات على ترك مَن قُتِل من أحبابهم على حافة الطريق دون دفنهم. سَمعتُ هذه الرواية أثناء مكوثي على أرضٍ مستعمرة في الولايات المتحدة، حيث حدثت عمليات تهجير قسري وتطهير عرقي للسكان الأصليين قبل مئة عامٍ تقريبًا في “درب الدموع،” وما زالت مستمرةً حتى يومنا هذا.
إذا اقتصرتُ على الرواية التي قدَّمها لي الغرب، فلا أُلامُ إنْ اعتقدتُ أن اللِّد قد ضاعت. فقد استحال مطار اللِّد إلى مطار بن غوريون الدولي، حيث يواجه الفلسطينيون الذين يسافرون عبره من جميع أنحاء العالم مضايقات واعتقالات وترحيل. أمَّا الفلسطينيون الذين بقوا في اللِّد فيجدون أنفسهم يعيشون في “مدينة مختلطة” تحت السيطرة الإسرائيلية – وهو تعبير ملطَّف لوصف منطقة فلسطينية لم تُطهَّر عرقيًا بالكامل – حيث يشكلون ثلث السكان فقط. حتى أن اسمها ضاع، إذ أمست اللِّد تُدعى اللُّد.
ومع ذلك، وبعد ٧٣ عامًا، خرجَ هذا الشاب في الصورة، ابن فلسطين، الذي عاش حياته كلها في ظل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. أعرفُ تاريخنا في مقاساة العنف، لكنني أعرف أيضًا كيف تبدو المقاومة الفلسطينية، إذ تتجسد في هذا الشاب وهو يتسلق عمود إنارة في خضم انتفاضة، مُمسكًا علم وطنه المسلوب ويغني في انسجام مع سائر الفلسطينيين من حيفا إلى غزة إلى القدس إلى رام الله، ومن لندن إلى ديترويت إلى ملبورن. تقول لي الصورة: ها نحن ما زلنا نقاتل.
اعتادَ الغرب على الحديث عن فلسطين بصيغة الماضي، لذلك فوجئ بانتفاضة أيّار ٢٠٢١ التي جمعت الفلسطينيين بحثًا عن الحرية رغم تشتتهم. لقد كانت انتفاضة الوِحدة لحظةً فاصلة في نظرة العالم إلى فلسطين وفكرته عنها. وبين عشيةٍ وضحاها برزت على المسرح العالمي كلماتٌ من قبيل “الفصل العنصري” و”إنهاء الاستعمار” – وهي كلمات يستخدمها الفلسطينيون منذ عقود. ولكنها لم تفاجئ إلا الغافلين.
بعد عام، ونحن في صيف ٢٠٢٢، يجب أن نسأل أنفسنا: عمَّ غفلنا أيضًا؟ ومَن ننسى عندما نروي حكاية فلسطين؟ ماذا يمكنهم أن يخبرونا عن معاناة البقاء والحب والتحرير وإنهاء الاستعمار؟ كيف نحرص على أن يكون مستقبل فلسطين بنسخه المتعددة ضامنًا لحرية الجميع؟ يُذكِرُنا الباحث الفلسطيني، رائف زريق، بأن الحديث عن عملية إنهاء الاستعمار بصيغة الماضي ليس ممكنًا: “الحديث عنها أثناء حدوثها يعني التدخل في الشكل الذي ستتخذه، في مسارها ومستقبلها.”
تندرج القصص الموجودة في هذا العدد ضمن الجهود المبذولة لرسم مستقبلنا. وهي تسلط الضوء على ثلاثة جوانب من الحياة الفلسطينية غير المستكشفة أو غير المستكشفة بما يكفي: الكويرية، الأَسر، وتجربة الفلسطينيين الأفارقة. وتتناول هذه القصص بعضًا من الأوجه المختلفة المكوِّنة للإنسان الفلسطيني اليوم – من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون.
يروي طارق بقعوني تجربةً فلسطينية كويرية في المنفى. يسترجعُ شذرات من ذكريات نشأته في عمان، ووقته العصيب في المدرسة، ورحلته في البحث عن منزل جدته العزيزة في حيفا، وحُلمه بمستقبلٍ فلسطيني لا يضطر فيه أحد لإخفاء نفسه.
أحلم بفلسطين أعيش فيها كما أنا
يتناول أحد الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في دولة الاحتلال المستقبلَ الفلسطيني. ويتحدث دون ذكر اسمه عن طموحاته في طفولته وكيف سُلِبَت بسبب السجن والتعذيب والمضايقات. إنها حكايةٌ عن القيود التي يفرضها الأسر في ظل نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني، ولكنها أيضًا عن المقاومة المستمرة التي أصبحت تُميز فلسطين.
أن أعيش في زمن ليس لي: رسالة مجهولة من داخل سجون الاحتلال
ثم لدينا قصتان حول تجربة الفلسطينيين الأفارقة. الأولى يخبرنا بها موسى قوس حول المجتمع الأفريقي الفلسطيني في البلدة القديمة في القدس من خلال تجارب سكانها تحت الاحتلال. والثانية ترويها سماح فضل كسلسلة من الخواطر القصيرة عن الحياة والأسرة والذاكرة في الشتات.
في قلب البلدة القديمة، تثبت أجيالٌ من الفلسطينيين الأفارقة في وجه الاحتلال
خواطر مقتبسة من التاريخ الشفوي الفلسطيني في الشتات
هذه القصص نبذات من تجارب الفلسطينيين الشتى حول العالم في ظل ظروف شديدة التباين والاختلاف. تجمع بين هذه القصص النكهة الفلسطينية المميزة: صمود الفلسطينيين وبشاشتُهم في مواجهة مصاعب لا تنتهي، وقدرتهم وجرأتهم على تخيل مستقبل آخر. تأخذنا هذه القصص في رحلة لنرى فلسطين بشكل مختلف: بطريقة نريد أن يرانا العالم بها.
شكرًا جزيلًا للمساهمين في هذا العدد على شجاعتهم وكرمهم، وإلى محررة ومترجمة العدد الاستثنائية لورا البسط، والمترجم أحمد بركات. والشكر لأصدقائِنا وحلفائِنا في مجلة “سْكِن دييب” الذين أحبوا ودعموا هذه القضية منذ البداية، فلولا كرمهم لَما تسنّى نشر هذه القصص. وختامًا، نشكر هؤلاء الذين لم يُكشَف عن أسمائهم والذين انتزعوا اسم وطننا من فكِّ التاريخ. وهم مَن، لو استطاعوا، لقدَّموا راحات أكفِّهم موطئًا لأخينا المتسلق في اللِّد. نشكركم لأنكم تبقوننا على قيد الحياة، لأنكم تعلِّموننا كيف نحلم، ولأنكم تبيِّنون لنا كل الطرق التي بها يمكننا أن نكون.
في “سْكِن ديب،” نوفر مساحة للمبدعين السود وذوي الخلفيات المتعددة لإخبار قصص جذرية تساعد على خلق عوالم جديدة. نحن منظمة غير ربحية ذات مصلحة مجتمعية. تمويل عملنا ليس بأمر سهل، خاصةً بالنسبة للقضايا الأكثر إلحاحًا التي نناقشها والتي تستحق اهتمامنا مثل قضية تحرير فلسطين. إذا كنتم تؤمنون بأهمية هذه القصص مثل التي هي موجودة في هذا العدد، فالرجاء دعم منظمتنا: بإمكانكم أن تصبحوا أعضاء في المجلة، أو يمكنكم التبرع.
*
ملاحظة حول المصطلحات اللغوية: نستخدم مصطلح “الاستعمار الاستيطاني” ومصطلح “الفصل العنصري” في هذا العدد عندما نشير إلى دولة الاحتلال الاسرائيلية. لا يتم استخدام هذه المصطلحات لأغراض إبداعية أو وصفية فقط، ولكنها مبنية في أسس القانون الدولي وتدعمها المنشورات الأكاديمية ومنظمات حقوق الإنسان الرائدة. تشجعنا هذه الأطر على الابتعاد عن نموذج “الدولتين” البائد القائم على التقسيم والفصل العرقي والديني بين الناس. تقع العدالة والحرية في صميم عملنا وقد استمعنا إلى المفكرين والأكادميين الفلسطينيين الذين يتخيلون مستقبلهم على أنه مستقبل غير استعماري، حيث يعني إنهاء الاستعمار إعادة أراضي وحياة السكان الأصليين. من المهم استخدام لغة دقيقة ومفصلة تعكس الواقع على الأرض من أجل تعزيز هذه الرؤية.
لقراءة المزيد حول هذه المصطلحات والأفكار:
عبده، نهلة ونيرة يوڤال-داڤيس (١٩٩٥)، “فلسطين، إسرائيل والمشروع الاستيطاني الصهيوني،” في د. ستاسيوليس ون. يوڤال-داڤيس (محررين)، زعزعة المجتمعات الاستيطانية: تعابير جندرية، عرقية، وطبقية، سايج.
جباري سالامانكا، عمر ومزنة قاتو، وكريم ربيع، وصبحي سمور (٢٠١٢) “الماضي هو الحاضر: الاستعمار الاستيطاني في فلسطين،” مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني، ٢ (١): ١-٨
سعيد، إدوارد (١٩٧٩). “الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها.” مجلة النص الاجتماعي، (١)، ٧-٥٨.
فيراسيني، لورينزو (٢٠٠٦) “إسرائيل والمجتمع الاستيطاني،” دار نشر بلوتو.
إيلان بابيه. “الصهيونية كاستعمار: نظرة مقارنة للاستعمار المخفف في آسيا وأفريقيا،” مجلة جنوب المحيط الأطلسي الفصلية (٢٠٠٨) ١٠٧، (٤): ٦١١-٦٣٣
جونغ، آن دي. “الهيمنة الصهيونية، الاستعمار الاستيطاني لفلسطين ومشكلة الصراع: سلالة نقدية لمفهوم الصراع الثنائي.” مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني ٨، رقم ٣ (٢٠١٨/٠٧/٠٣ ٢٠١٨): ٣٦٤-٨٣ https://doi.org/10.1080/2201473X.2017.1321171.
كاوانوي، ج. كاوالاني. “هيكل وليس حدث: الاستعمار الاستيطاني والأصلانية الدائمة.” مجلة لاتيرال ٥، رقم ١ (٢٠١٦): ٥-١.
تاك، إيڤ، وك. واين يانغ. “إنهاء الاستعمار ليس مجازًا.” إنهاء الاستعمار: الأصلانية، مجلة العلم والمجتمع ١، رقم ١ (٢٠١٢).
باتريك وولف. “الاستعمار الاستيطاني والقضاء على السكان الأصليين.” مجلة أبحاث الإبادة الجماعية ٨، رقم ٤ (٢٠٠٦/١٢/٠١ ٢٠٠٦): ٣٨٧-٤٠٩. https://doi.org/10.1080/14623520601056240.
*
المنسقة – زينة آغا
المحرِّرة المُساهِمة – لورا البسط
المحرِّرين من مجلة “سْكِن ديب” – نْكِنَّه أكونا، أنو هينريكيس، هانا أزووُنْيِيه وجورحي جونسون
منتجة العدد – هانا أزووُنْيِيه
المخرجة الإبداعية – سيلڤيا هونغ
العمل الفني – عود نصر
المترجمين – لورا البسط وأحمد بركات
مدققة العدد (باللغة الانكليزية) – جورجي جونسون
مدققي العدد (باللغة العربية) – لورا البسط وأحمد بركات
إدارة وسائل التواصل الاجتماعي – لورين بيمبيرتون-نيلسون
شكرًا جزيلًا إلى مَكان، مركز الدعم القانوني الأوروبي، جمعية الجالية الافريقية القدس الشريف، ودانا عبد الله وميغان دريسكول لدعمهم هذا العدد.