مجهول
هذا المقال جزء من عدد “فلسطين: أوجه الوجود،” الذي يسلط الضوء على جوانب من الحياة الفلسطينية والتحرير غير المستكشفة بما يكفي.
اقرأ هذا المقال باللغة الانكليزية.
لطالما كان السجن مسعى من مساعي الاستعمار في فلسطين، فالعديد من السجون ومراكز الشرطة التي استُخدمت لمراقبة الفلسطينيين واحتجازهم إبان الحكم البريطاني لفلسطين باتت تُستخدم اليوم في عهد النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي للغرض نفسه. السجنُ في الحاضر كما كان في الماضي آليةٌ لتدمير المجتمع الفلسطيني. فمنذ عام ١٩٦٧، اعتقل النظام الإسرائيلي زهاء ٨٠٠ ألف فلسطيني، وفي وقت كتابة هذا النص، كان هناك ٤٦٥٠ فلسطينيًا – من بينهم ١٨٠ طفلاً – خلف القضبان في السجون الإسرائيلية، قضى العديدُ منهم أحكامًا طويلة، بينما لا يزال آخرون عالقين في دورات من تكرار الأحكام، وآخرون محتجزين لشهور دون تهمة بموجب “الاعتقال الإداري.” يستطيع النظامُ الإسرائيلي أن يمدِّدَ فترة الاعتقال الإداري إلى أجل غير مسمى، وأن يُبقي التهم – الملفَّقة في الغالب – سرية. تُعرِّفُ مؤسسة الضمير، المعنية بدعم الأسرى وحقوق الإنسان، هذه الممارسة على أنها شكل من أشكال التعذيب النفسي، فضلًا على التعذيب الجسدي الذي يكابده الأسرى الفلسطينيون، ما في ذلك الضرب، ووضعهم في وضعيات مرهقة، وحرمانهم النوم.
على الرغم من هذا الواقع القاسي الذي لا يمكن تصوره، لم يتخل الأسرى الفلسطينيون عن سلطتهم السياسية ولا عن إرادتهم في الحياة. فقد رأينا آلاف الأسرى يُضربون عن الطعام لأسابيع في إطار عمل جماعي ضد إدارة السجن، كما رأيناهم يحرصون على التواصل مع الحلفاء حول العالم، وحشد التضامن والحب للنضال الفلسطيني من أجل التحرير.
يستأثر الأسرى الفلسطينيون بمكانة مركزية في النضال الفلسطيني. نتعلم منهم المعنى الحقيقي للمثابرة. وفي هذا الصدد، نقتبس الكلمات التالية من أحد هؤلاء الأسرى الفلسطينيين المحتجز حاليًا لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي، والذي اختار عدم الكشف عن هويته.
*
عندما كنت صغيرًا، كنت أحلم أن أصبح طبيبًا. كانت مهنة الطب تجذبني كونها تمنح الأمل والحياة للناس في مقابل الموت. كنت أرى بها انتصارًا للعيش والإنسان والحب على العدم. بقيت أُربِّي حلمي عقدًا من الزمن، إلى أن جاءت الحياة وصفعتني بواقعيتها المريرة، لتقول لي إن أمنيات الطفولة تبقى أحلامًا لا يمكن أن تحقق، وإن العالم الذي نعيش فيه أشد قسوة وصعوبة من ذلك العالم الوردي الذي تلونه مخيلة الطفولة. بل وأكثر من ذلك، كانت تردد بصوتٍ فج: لا طفولة ولا أحلام ولا زمان في هذا المكان.
كبرت، وما لبثت أن أصبحت في السادسة عشر من عمري، ووجدت نفسي نزيلاً مقيدًا خلف قضبان الزنازين. اعتقدت في البداية أني بحلم يقظة، لكن سرعان ما تبدى لي أنني أعيش واقعي الجديد. مكثت في ذلك الاعتقال عامين ونصف قيد الاعتقال الإداري. لم تكن تجربة سهلة، لكنها كانت مفصلية حددت معنى لحياتي فيما بعد.
تحررتُ من الأَسر وواصلت دراستي الجامعية، لكن سرعان ما أعيد اعتقالي لمدة عام بتهمة نشاط طلابي. كنت منذ اعتقالي الأول قد أدركتُ أنْ لا مكان لحلمي بالطب في هذا الصراع، الذي وجدت نفسي فاعلا منفعلا ومتفاعلا فيه، فقررت أن أغير وجهتي لأدرس الصحافة عَلَّي أستطيع بها نشر قضية شعبي، وهو ما دفعني إلى بدء حياتي الجامعية بكلية الإعلام. لكن مع اعتقالي الثاني، واطلاعي على كتابات كارل ماركس وفرانتس فانون وباولو فريري، خلُصت إلى أن الأولوية هي لتحرير الذات المضطهدة من شعبي، أي تحرير الإنسان، فتحولت باتجاه علوم النفس والاجتماع.
لم يتوقف مسلسل الاعتقالات، فبعد الإفراج عني من الاعتقال الثاني بعام واحد، تكرر اعتقالي مجددًا لمدة شهرين في مركز تحقيق، تعرضت خلالها لتعذيب قاس، قبل أن يُفرج عني “لعدم كفاية الأدلة.” أشعرتني الاعتقالات المتواصلة والاستدعاءات من المخابرات الإسرائيلية أنني ملاحق ومطارَد باستمرار، وأن وقتي محدد بكل شيء، وأن السجن يجري خلفي حاملا الأصفاد، وهو ما جعلني أنجز دراستي سريعًا. فأتممت البكالوريوس، ثم مُنِعتُ من السفر لدراسة الماجستير في الخارج، فقمت بدراستها بالجامعة ذاتها قبل أن يعاد اعتقالي إداريا لمدة عام ونصف. تحررت وقررت أن أواصل دراسة الدكتوراه، فحصلت على مقاعد للدراسة خارج فلسطين، لكنني منعت من السفر مجددًا، لا وبل أعيد اعتقالي، لكن هذه المرة لأربع سنوات خضعت فيها للتحقيق والاستجواب بوسائل وحشية. أربع سنوات كانت لتكفي لنيل الدكتوراه لو بقيت حرًا.
أصبح السجن أمرًا ثابتًا في حياتي، لم يقتصر على مصادرة حريتي كإنسان، وهو الإحساس الأكثر سطحية في المسألة، وإنما تجاوزه إلى ما وراء ذلك، فالأسر يسلبك أمورًا أخرى دون أن تشعر، كلَّ ما تملك أو يمكنك أن تملك، قدراتك، أحلامك، ذكرياتك، علاقاتك، وكل ما تنفرد به أو تتساوى به مع المجموع… والأهم من هذا كلِّه شعورك بذاتك العميقة، فأنت تقاتل باستماتة كل يوم لتحافظ على إنسانيتك التي تسلب منك، ورغم كل هذا الصراع والقتال ستجد أشياء عديدة تفلت منك، أمام عينيك ومن بين يديك، رغمًا عنك.
السجن في فلسطين المحتلة هذه الأيام هو عمليةُ تعذيب مبطنة وممنهجة أكثر رهافة إذ تستهدف الروح قبل الجسد. السجنُ يصادرك من الزمن، ويصادر الزمن منك، وينبذكَ خارجه. فتجلس في زمنٍ دائري مكرر، يلغي فكرة التطور والانتقال كما في الزمن الطبيعي التسلسلي، فيجعلك أسيرَ زمن جدلي لولبي يبدأ ويعود ما بين الحاضر والماضي، والحاضر والمستقبل؛ الحاضر الذي يتراءى لك ساكنًا فيجعلك كأسير تعيش بزمان آخر، زمانٍ وصفه الأسير وليد دقة (الذي يقبع في السجن منذ ٣٧ عام) بالزمان الموازي.
السجن كتجربة وجودية تجعلك تعاني أقصى آلام الوجود، وهو قلق الانفصال البشري عن الطبيعة. فغيابك عن الزمن وعن الطبيعة وعن الحب وعن ذاتك يدفعك لإعادة التفكير في كل شيء. أولها، وحدتك، عزلتك، ووجودك كإنسان.
السجنُ تِذكارٌ دائم بأن الحرية ليست كلمات بل أفعال لها ثمن. وهو يرينا أيضًا قسوةَ البشر. وبقدر ما تتعرض له من مشاعر وأحاسيس يحوِّلك السجن إلى كائنٍ مرهف، تغمره السعادة عند مروره بجانب شجرة، أو رؤيته زهرة، أو عند تحديقه بشمس المغيب. فهو المكان الذي يعيدك إلى بهجة البدايات، وأجمل البدايات، اندهاش الطفولة.
الأَسر هو ما يُبقي الإنسان يراهن على المستقبل، لأن “أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد” كما أخبرنا الشاعر ناظم حكمت. عذابُ الأَسر يُعلِّمك أن تمنحَ نفسك لشعبك بغير حدود، لطموحاته إلى حيث الحرية والعدالة فتدمج أحلامك الخاصة بأحلام المجموع.
في فلسطين، يقبع آلاف الأسرى في سجون الاحتلال، فضلًا على ٦ ملايين فلسطيني يقبعون في السجن الأكبر في التاريخ منذ سبعة عقود، يعانون التطهير العرقي والقتل وإجراءات الفصل العنصري، وفضلًا على ٦ ملايين آخرين مشتتين في دول مجاورة يحلمون بالعودة.
إذا كان الاستعمار قد حطَّم حلمي الطفولي وأحلام الملايين من أطفال شعبي، إلا أنه لم يحطم الأملَ فينا، ولا رغبتنا وتوقنا الراسخ للحرية والعدالة. ومع أن تحرير فلسطين قد يبدو وكأنه مهمة لا يمكن تصورها في بعض الأحيان، إلا أنني على يقين من أن شعبي لن يكلّ حتى ينال حريته.
الشكر إلى الميسر المجهول الذي كتب المقدمة ومكّن الاتصال بيننا وبين الكاتب الأسير.
*
في “سْكِن ديب،” نوفر مساحة للمبدعين السود وذوي الخلفيات المتعددة لإخبار قصص جذرية تساعد على خلق عوالم جديدة. نحن منظمة غير ربحية ذات مصلحة مجتمعية. تمويل عملنا ليس بأمر سهل، خاصةً بالنسبة للقضايا الأكثر إلحاحًا التي نناقشها والتي تستحق اهتمامنا مثل قضية تحرير فلسطين. إذا كنتم تؤمنون بأهمية هذه القصص مثل التي هي موجودة في هذا العدد، فالرجاء دعم منظمتنا: بإمكانكم أن تصبحوا أعضاء في المجلة، أو يمكنكم التبرع.
*
ملاحظة حول المصطلحات اللغوية: نستخدم مصطلح “الاستعمار الاستيطاني” ومصطلح “الفصل العنصري” في هذا العدد عندما نشير إلى دولة الاحتلال الاسرائيلية. لا يتم استخدام هذه المصطلحات لأغراض إبداعية أو وصفية فقط، ولكنها مبنية في أسس القانون الدولي وتدعمها المنشورات الأكاديمية ومنظمات حقوق الإنسان الرائدة. تشجعنا هذه الأطر على الابتعاد عن نموذج “الدولتين” البائد القائم على التقسيم والفصل العرقي والديني بين الناس. تقع العدالة والحرية في صميم عملنا وقد استمعنا إلى المفكرين والأكادميين الفلسطينيين الذين يتخيلون مستقبلهم على أنه مستقبل غير استعماري، حيث يعني إنهاء الاستعمار إعادة أراضي وحياة السكان الأصليين. من المهم استخدام لغة دقيقة ومفصلة تعكس الواقع على الأرض من أجل تعزيز هذه الرؤية.
لقراءة المزيد حول هذه المصطلحات والأفكار:
عبده، نهلة ونيرة يوڤال-داڤيس (١٩٩٥)، “فلسطين، إسرائيل والمشروع الاستيطاني الصهيوني،” في د. ستاسيوليس ون. يوڤال-داڤيس (محررين)، زعزعة المجتمعات الاستيطانية: تعابير جندرية، عرقية، وطبقية، سايج.
جباري سالامانكا، عمر ومزنة قاتو، وكريم ربيع، وصبحي سمور (٢٠١٢) “الماضي هو الحاضر: الاستعمار الاستيطاني في فلسطين،” مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني، ٢ (١): ١-٨
سعيد، إدوارد (١٩٧٩). “الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها.” مجلة النص الاجتماعي، (١)، ٧-٥٨.
فيراسيني، لورينزو (٢٠٠٦) “إسرائيل والمجتمع الاستيطاني،” دار نشر بلوتو.
إيلان بابيه. “الصهيونية كاستعمار: نظرة مقارنة للاستعمار المخفف في آسيا وأفريقيا،” مجلة جنوب المحيط الأطلسي الفصلية (٢٠٠٨) ١٠٧، (٤): ٦١١-٦٣٣
جونغ، آن دي. “الهيمنة الصهيونية، الاستعمار الاستيطاني لفلسطين ومشكلة الصراع: سلالة نقدية لمفهوم الصراع الثنائي.” مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني ٨، رقم ٣ (٢٠١٨/٠٧/٠٣ ٢٠١٨): ٣٦٤-٨٣ https://doi.org/10.1080/2201473X.2017.1321171.
كاوانوي، ج. كاوالاني. “هيكل وليس حدث: الاستعمار الاستيطاني والأصلانية الدائمة.” مجلة لاتيرال ٥، رقم ١ (٢٠١٦): ٥-١.
تاك، إيڤ، وك. واين يانغ. “إنهاء الاستعمار ليس مجازًا.” إنهاء الاستعمار: الأصلانية، مجلة العلم والمجتمع ١، رقم ١ (٢٠١٢).
باتريك وولف. “الاستعمار الاستيطاني والقضاء على السكان الأصليين.” مجلة أبحاث الإبادة الجماعية ٨، رقم ٤ (٢٠٠٦/١٢/٠١ ٢٠٠٦): ٣٨٧-٤٠٩. https://doi.org/10.1080/14623520601056240.