“إنه عنفٌ بلادماء”: سياسة الجرافات

Residents run away during a home demolition in Gaza during the second intifada. © 2001 UNRWA Photo by Khalil Hamra
تُستخدم الجرافات من فلسطين إلى كشمير كأداة في مشاريع استعمارية عبر أنحاء العالم. تتحاور مجلة سكين ديب مع الفينامبولست حول معماريات الدمار والركام كشهادة حية، وكيف تدفعنا الجرافات إلى إعادة التفكير في ما يمكن اعتباره سلاحًا.

في 7 أكتوبر 2023، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُظهر جرافة وهي تهدم سياجًا بنته إسرائيل حول غزة. وكان يمكن سماع رجل فلسطيني يهتف بكل حماس: “نعم، هيا! الله أكبر! اضربوها يا شباب! ارتاح يا جدار!”

شكّل استخدام الفلسطينيين للجرافة ضد بنية تحية إسرائيلية انعكاسًا رمزيًا. فعلى مدى عقود، لعبت جرافات “جي سي بي” و “كاتربيلر”  دورًا محوريًا في عمليات الهدم المنهجي التي تنفذها إسرائيل ضد منازل الفلسطينيين ومقدراتهم العمرانية، ولا تزال تُستخدم في التطهير العرقي المستمر في غزة. وتُستخدم الجرافات نفسها في الهند وكشمير، حيث تستهدف الحكومة الهندوسية القومية التابعة لحزب بهاراتيا جاناتا منازل وأماكن عمل السكان المسلمين.

شكّلت سياسات هذه المعدّة الإنشائية واستخدامها الطويل من قِبل أنظمة القمع موضوعًا لعدد حديث من مجلة الفينامبولست، وهي مجلة، بكلمات رئيس تحريرها ليوبولد لامبير، تستكشف مختلف النضالات السياسية في العالم، بما في ذلك النضالات المناهضة للاستعمار والعنصرية، ونضالات مجتمع الكويرية والنسوية من منظور مكاني، غالبًا ما ينظر إلى الجغرافيا والمدن والبيئة العمرانية والأشياء والملابس. تحدثت مجلة سكين ديب مع ليوبولد لامبير، رئيس تحرير الفينامبولست، ومع شيفانجي مريم راج، مديرة الاتصالات في المجلة، حول عدد المجلة المعنون “سياسة الجرافة”، والذي يتناول عمارة الخراب، والركام كشهادة، وكيف تُجبرنا الجرافات على إعادة التفكير فيما يُعتبر سلاحًا.

سكين ديب:  ما هي الفينامبولست؟

ليوبولد لامبير: كانت الفينامبولست في الأصل مدونة أنشأتها عام 2010. في ذلك الوقت، كنت ما أزال أعمل كمهندس معماري، لا أدري إن كان يمكنني اعتبار نفسي كذلك بعد الآن. كنت أكتب غالبًا عن تواطؤ العمارة مع مختلف أنظمة القمع، لا سيما الاستعمار الاستيطاني وفلسطين. في عام 2013، بدأت بودكاست ليعمل إلى جانب المدونة، وبعدها ببضع سنوات، انطلقت المجلة، باقتصاد يعتمد في الأساس على الاشتراكات.

نُصدر عددًا جديدًا كل شهرين، باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ونحن على وشك إرسال العدد الثامن والخمسين إلى الطباعة الآن (سيكون العدد 60 عند وقت النشر). أهدافنا التحريرية تتناول مختلف النضالات السياسية في العالم، بما في ذلك النضالات المناهضة للاستعمار، ومناهضة العنصرية، ونضالات مجتمع الكويرية والنسوية. ونقرأ هذه النضالات من منظور مكاني، ننظر غالبًا إلى الجغرافيا، والمدن، والبيئة العمرانية، والأشياء، والملابس. كما نحاول تنمية أشكال التضامن الأممي بين هذه النضالات السياسية المختلفة.

سكين ديب: لماذا ركزتم هذا العدد على الجرافات؟

ليوبولد لامبير: اُستلهم موضوع العدد أساسًا من كتاب كتبته بالفرنسية بعد الحصار الدموي الأخير على غزة في عام 2014. في ذلك الوقت، بدا لي أنه أسوأ ما يمكن أن نشهده.

لقد أثار انتباهي أنه وسط قصف الجيش الإسرائيلي المتكرر، وفي إطار المشروع الصهيوني الأشمل، كان ثمة نظام منهجي موجّه في عمليات التدمير. وكان هذا تناقضًا صارخًا بين فوضى الركام وبين النظام السياسي المحدد جدًا الذي ينتج ذلك الركام. حاول كتابي توضيح هذا النظام الذي تنفّذه الجرافة، متتبعًا استخدامها وصولًا إلى النكبة عام 1948. حجتي هي أن نظام التدمير يشبه إلى حد بعيد النظام الكامن في مشاريع البناء المعمارية. ففي حالة الاستعمار الاستيطاني، يترافق تدمير منازل الفلسطينيين مع بناء بنية تحتية للمستوطنين جنبًا إلى جنب.

شيفانجي مريم راج: في سياق شبه القارة الهندية، تُلحِق الدولة جروحًا مكانية متفاوتة الدرجة بالمجتمعات المُهمَّشة والمستعمَرة، بهدف إلغاء وجودها السياسي. غالبًا ما تُفهَم العنف من خلال صور مرئية للدماء وللأجساد المتألمة. لكن الركام ينطوي على نوع محدد جدًا من العنف، عنف بلا دماء، وهو عنف يُنفَّذ في الفضاء العام، ومع ذلك يظل مخفيًا في ذلك الفضاء ذاته

أحب التفكير في مصطلح “عمارة الخراب” لفهم كيف يُنشئ الركام شكلًا معينًا من المشهد. على سبيل المثال في الهند، يجري تنفيذ مشروع ضخم للدولة الهندوسية (هندو راشترا)، تقوده القوى الهندوسية المتطرفة. هندو راشترا تشير إلى تصميم “الهند الكبرى الموحدة”، وهي طموحات توسعية تقوم على إلغاء سيادة جميع الدول المجاورة في شبه القارة الهندية وضمّها إلى ثقافة هندوسية أحادية. نرى حاليًا هذه الدولة الهندوسية تتجسد من خلال تدمير ممنهج ومُوجه للأماكن الإسلامية في الهند وكذلك في كشمير الخاضعة للاحتلال الهندي. هكذا يصبح مشروع هندو راشترا ملموسًا ماديًا عبر هذا الشيء المسمّى ركام.

“كان هناك تناقضًا صارخًا بين فوضى الركام وبين النظام السياسي المحدد جدًا الذي ينتج ذلك الركام.”

لن يكون لدينا الأدوات لمقاومة النظام الذي يشكله الركام في الفضاء، ما لم نتمكن من تسمية هذا العنف والتعرف على بنيته الداخلية، هذا العنف الذي يعيد ترتيب البيئة العمرانية بذكاء شديد. فمع الجرافات، هناك هندسة ديموغرافية دقيقة قيد التنفيذ، تحدد أي السكان مسموح لهم بالبقاء، وكيف، وبأي عدد، وأين. إنها أداة لإدارة السكان، يهيمن عليها بشكل كبير منطق الطبقات الاجتماعية (نظام الطوائف).

سكين ديب: ما معنى “عمارة الخراب” ؟

ليوبولد لامبير: مصطلح “عمارة الخراب” صاغته شيفانجي مريم. أمّا المصطلح الذي أستخدمه، والذي ينتمي إلى العائلة ذاتها نوعًا ما، فهو “التخريب المتواصل” .

هذه العملية لها طابع خاص من حيث دقتها في فلسطين. عادةً لا تجد الدول الاستعمارية مشكلة في ترك الأطلال خلفها أثناء تنفيذ التطهير العرقي للسكان الأصليين. لكن في حالة فلسطين، هناك تدمير مزدوج. هناك تدمير للمنازل ذاتها، ثم هناك تدمير للأطلال، أي تدمير الأدلة على ذلك التطهير العرقي. وهذه الخطوة ضرورية لجعل المستعمرة الاستيطانية تتماشى مع الشعار الصهيوني الشهير: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. لذا فإن هذا التدمير، ليس فقط للمنازل بل للأطلال أيضًا، يجري خصيصًا من أجل تحويل هذه السردية إلى واقع، أو على الأقل إلى نوع من الوهم بواقع على الأرض.

سكين ديب: إذا فكّرنا في الجرافات، ربما نعتبرها أدوات محايدة أو حتى مفيدة. هل نحن مخطئون في ذلك؟

شيفانجي مريم راج: قد يظن البعض أن الجرافة لا يمكن أن تكون سلاحًا لأنها معدّة إنشائية، أو لأنها تُستخدم في إنقاذ الناس من الكوارث الطبيعية مثل الانهيارات الأرضية والفيضانات والزلازل. لكن هذا بالضبط ما يجعل شركات مثل جي سي بي قادرة على تحقيق أرباح من استخدام آلاتها في هذه القوى المهيمنة سياسيًا. فهي أداة يصعب الاشتباه بها بسبب عاديّتها، وأدائها لبراءة ظاهرية. في أعماله، قارن ليوبولد الجرافة بالقنبلة، وأعتقد أن عنف الجرافة أخطر حتى، لأننا لا نقدر على التعرف عليه كعنف في أغلب الأحيان.

ليوبولد لامبير: في حالة فلسطين، كانت جرافات عام 1948، أو حتى الجرافات التي دمرت بالكامل حي المغاربة الفلسطيني في البلدة القديمة بالقدس، لا تختلف كثيرًا عن الجرافات التي نفكر فيها اليوم. لقد جرى تطويرها وتخصيصها بالتعاون الوثيق مع الشركة الأمريكية كاتربيلر، المدرجة على قائمة الأهداف ذات الأولوية لحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.

سكين ديب: تحدثتم عن حضور الرمزية والصور المرتبطة بالجرافة في الثقافة السائدة، مثل ألعاب الجرافات للأطفال، أو صور الركام المنتشرة بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي. ما أثر ذلك؟

شيفانجي مريم راج: أولًا، أعتقد أنه يخلق وسيلة لهوية المستعمر أو الأغلبية كي توطد نفسها وتعبّر عن ذاتها. كما يصبح وسيلة لتهدئة القلق المتأصل في مشاريع الدولة القومية، سواء كانت الدولة الإسرائيلية أو الدولة الهندية.

سواء كان الأمر في خراب فلسطين أو خراب كشمير أو تدمير منازل المسلمين في الهند، هناك جهد منظم على وسائل التواصل الاجتماعي لتكثير صور الركام. نستمر في تداول هذه الصور على أمل نشر الوعي أو توثيق الأدلة. لكن في الوقت الراهن، المستوطنون والجنود والجناة أنفسهم هم من يخلقون ويوزعون صور جرائمهم. فكيف يُفترَض بنا أن ننظر إلى هذا الركام؟ لا نعلم ما إذا كانت هذه الصور تُنتج بسبب هذا الركام، أم يجري عمدًا إنتاج المزيد من الركام من أجل هذه الصور. إن اقتصاد إنتاج الصور يتبع مرة أخرى منطق الهيمنة المكانية، مُجمِّدًا أجساد ووقت الشعوب المهمَّشة والمستعمَرة في موقع خراب دائم.

واستخدم أيضًا مصطلح “عسكرة علم الآثار” لأصف كيف تُحفَر المساجد في الهند ويُجرى هدمها بحثًا عن ماضٍ هندوسي “مجيد” متخيّل، أو في فلسطين، حيث يُبرَّر الحفر وهدم أحياء كاملة باعتباره تأكيدًا على ماضٍ توراتي. يحمل علم الآثار وجهًا علميًا موضوعيًا محايدًا، لكن مضطهدينا يستخدمونه كسلاح لصناعة أساطير وطنية.

سكين ديب: كيف تتفاعل صور الركام مع الزمن والمفاهيم الزمنية؟

شيفانجي مريم راج: أعتقد أن الركام شهادة على الشيء الذي سبقه. إنه يشبه النظر إلى الشيء ذاته، ولكن في شكل غازي أو متبخر. ومع ذلك، يظل هو نفس الشيء. ولكي نستمر في رؤيته على هذا النحو، نحن بحاجة إلى أخلاقيات الغياب، أي احترام الفضاء المتفكك، واحترام هذا النوع من الفقدان، لأنه فقدان ضخم. من المستحيل الوقوف في أي حي مسلم في الهند اليوم دون استنشاق الغبار المتصاعد من بيت أحدهم المحطَّم. في كشمير، جرى تدمير آلاف المنازل المسلمة حتى الآن، باعتبار ذلك “تكتيكًا مضادًا للتمرد” يُحتفى به.

ولا يمكننا حتى البدء في الحداد على هذا الفقدان دون التمسك بأخلاقيات الغياب. على سبيل المثال، قبر بابا حاجي روزبيه، الذي يُقال إنه أول ضريح صوفي في دلهي من القرن الثاني عشر، هُدم بواسطة جرافة. لكن الخادم الذي يرعى الضريح ما زال يعيد ترتيب الحجارة، ويحافظ على طقوس العبادة بالبخور والورود. هناك أيضًا عائلات مسلمة من الطبقات الاجتماعية المقهورة في حي ناي بستي في ماثورا، هُدمت منازلها، وليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. ومع ذلك يقولون: “سنعيش داخل هذا الركام”. أو كما يقول الفلسطينيون في غزة: “إحنا صامدون هون”. هذه الفكرة عن الانتظار مع شيء غائب، شيء غير موجود بمعنى الكلمة. إن مفردات الغياب تساعدنا على التعامل مع هذا الفقدان الهائل.

سكين ديب: هل هناك أمثلة على مقاومة أو قلب لسياسة الجرافات؟

ليوبولد لامبير: استخدام الجرافة من قِبَل الفلسطينيين في غزة يوم 7 أكتوبر 2023 كان مثالًا مذهلًا. تلك الصورة المذهلة للجرافة وهي تفتح باب السجن، إذا جاز التعبير، وتُفكك الجدار الذي يحيط بغزة وتفتح طريقًا للخروج. أعتقد أنني في حياتي شاهدت بعض استخدامات الجرافة في سياقات معاكسة لما كنا نصفه طوال الساعة الماضية، لكن هذا الاستخدام هو بلا شك الأشد تعبيرًا عن المقاومة. تدمير ذلك الجهاز المعماري الذي وصفته كثيرًا في أعمالي كان له وقعٌ شخصي عميق عليّ.

شيفانجي مريم راج: الأنفاق المحفورة في جميع أنحاء فلسطين مثال رائع على استعادة الفضاء. إنها شكل من العمارة التحررية.

إن إنتاج الركام هو ممارسة لرسم الحدود، لكن الأنفاق تُلغي هذه الحدود، مما يسمح للعائلات والأحبّة بتجاوز الأوهام الصهيونية في الفضاء، وتداول الطعام، وتبادل التحيات، وتنظيم بنية تحتية للمقاومة. ومن الأمثلة الأخرى حين يدمّر المقاومون الفلسطينيون الجرافات المدرعة، ثم يُعاد توظيفها لاستخدامها في صنع أسلحة.

يستخدم المسلمون في كشمير مصطلح “شهيد” لوصف المنازل” والمساجد التي جرى هدمها. أجد في هذا المفهوم قدرًا هائلًا من الكرامة، فهو يشير إلى أن فقدان المنزل لا يقتصر على الطوب والإسمنت والحجارة والحديد، بل يمتد إلى التاريخ والذاكرة العابرة للأجيال.”

ولدينا أيضًا أمثلة في الهند، حيث قام مسلمون في حي معين بإحراق الجرافات ومنعوا هدم منازلهم. هناك رفض، وقلب للمعادلة، واستعادة للحق تُمارس في هذه المساحات؛ إذ تصبح المساحة ذاتها، التي تولّد كل هذا العنف، مساحة للبقاء، ولرفض الرحيل، ولرفض الانسحاق تحت هذا المنطق. جزء كبير من عنف الجرافة يكمن في تقييدنا وخنق أجسادنا وأجوائنا بالغبار لدرجة أننا لا نكاد نستطيع التنفس، وبالتالي لا نكاد نفهم ما يحدث لنا، ولا نكاد نبدأ حتى في الحزن على خسائرنا.

يستخدم المسلمون في كشمير مصطلح “شهيد” لوصف المنازل والمساجد التي جرى هدمها. أجد في هذا المفهوم قدرًا هائلًا من الكرامة، فهو يشير إلى أن فقدان المنزل لا يقتصر على الطوب والإسمنت والحجارة والحديد، بل يمتد إلى التاريخ والذاكرة العابرة للأجيال.

بينما يحاولون صناعة تاريخ معين على أجسادنا، فإننا نخلق ونحافظ على ذاكرتنا الخاصة، وهي في طليعة المقاومة. ذاكرتنا ستصمد أطول من مشاريعهم الأسطورية وإمبراطورياتهم المبنية على الغبار.

في “سْكِن ديب،” نوفر مساحة للمبدعين السود وذوي الخلفيات المتعددة لإخبار قصص جذرية تساعد على خلق عوالم جديدة. نحن منظمة غير ربحية ذات مصلحة مجتمعية. تمويل عملنا ليس بأمر سهل، خاصةً بالنسبة للقضايا الأكثر إلحاحًا التي نناقشها والتي تستحق اهتمامنا مثل قضية تحرير فلسطين. إذا كنتم تؤمنون بأهمية هذه القصص مثل التي هي موجودة في هذا العدد، فالرجاء دعم منظمتنا: بإمكانكم أن تصبحوا أعضاء في المجلة، أو يمكنكم التبرع

Explore more

14.07.25
‘It’s violence without blood’: the politics of bulldozers